ما الذي يحدد انحيازاتنا الفكريّة؟أمور متعددة، منها التقليد، والاجتهاد، والتأثر غير الواعي بما حولنا… وكذلك أوضاعنا الاجتماعية. وأزعم أن هذه الأخيرة هي المحدد الأعظم لأغلب التوجهات والقناعات الفكرية في ساحتنا الداخلية.
فالوضع الاجتماعي، في مجتمع ينزع للنمطية والتجانس ويخشى التفرّد والاختلاف، يمارس سلطة عظيمة على منطوقاتنا الفكريّة، وسلوكنا اليومي. فالذي أعتقده وضعا صحيا وطبيعيا هو أن يعيش المرء بحسب قناعاته، ولكن الذي نراه هنا هو أن القناعات تتشكل بحسب الوضع الذي نعيشه.
ونجد أثر هذا الأمر في حوارات أفراد هذا المجتمع، إذ تستحيل من حوارات معرفية يحددها ويوجهها الدليل والبرهان، إلى تبريرات ودفاعات عن الوضع الاجتماعي الذي أنتج المواقف الفكرية التي يتبناها كلا المتحاورين. ويتأكد هذا الأمر أكثر، كلما زادت حساسية القضية موضع النقاش، كقضايا المرأة… التي وإن كانت تصور مغلفة ببراهين وادلة معرفية وشرعية، إلا أن الموقف المتخذ ناشئ عن الصورة النمطية للمرأة كـ”عرض” و “عورة”.
وفي حال قرر المرء الخروج عن هذا الوضع، وبدأ يجتهد في تشكيل قناعاته الشخصية، فإن مشكلة أخرى ستبرز امامه هي مشكلة “ممارسة” هذه القناعات. فممارسة القناعة التي تختلف عن سلوكيات مجتمع تكاد تكون منمطة بالكامل، تعتبر تهديدا لمصالح هذا الشخص، مما يؤدي به في نهاية الأمر إلى العيش داخل حياة مزدوجة: لها ظاهر يتماشى مع سلوكيات الناس وإن لم يتم الاقتناع بها، وباطن ينطلق من القناعات الخاصة.
وهذا الوضع هو الذي يجعل من مجتمعنا مجتمعاً حريصاً على التقيّد بالمظاهر، يرفض المطالبة العلنية بالتغيير على الرغم من قبوله بها في الدوائر المغلقة. ليس هذا فقط، بل يحوله إلى مجتمع يرفض تماما الاعتراف بمشاكله واوبائه، ووضعها في الموضع الصحيح. مشاكل كزيادة معدلات الانتحار، وتفاقم ظاهرة الشذوذ الجنسي، والفساد الإداري المستشري في غالبية مؤسساته العامة والخاصة.