كثيرة هي المقالات والأبحاث التي تتناول مسألة «موجة» الربيع العربي من جوانب مختلفة: كيف نوقف هذه الموجة؟ ما مداها؟ كيف يمكن عكس اتجاهها؟ كيف يمكن احتواؤها؟ ما أسبابها؟ وغيرها من الأسئلة، وهذه الأسئلة لا تُطرح فقط لأسباب معرفية وأكاديمية، بل تتحول أجوبتها إلى سياسات يعتمدها صنّاع القرار، الذين يضعون ثقة من نوع خاص لمراكز الدراسات والأبحاث وبيوت الخبرة المهتمة بتقديم توصيات واستشرافات وتحليلات للظواهر السياسية، اعتماداً على أحدث النظريات السياسية المنبثقة من المؤسسات الأكاديمية العالمية الكبرى. ما سأجادل عنه هنا، هو أنه على العكس تماماً مما هو سائد، فإن جميع هذه الأدبيات التي تتعامل مع «الربيع العربي» باعتباره «موجة» لا تقدم لقرائها وصنّاع القرار، الذين يريدون معرفة كيفية التعامل، أي تحليلات تستند فيها على الواقع بقدر ما تقدم أوهاماً تستند فيها على عالم نظري بحت منفصل عن الواقع.
لنبدأ بالقول بأن العقل البشري لا ينفر من شيء كنفوره من الحالات العرضية والشاذة، فالعقل لا يستطيع أن يحلل أو يتنبأ أو يستنتج إلا في موضوع ثابت، دوري ومتجانس، ولهذا السبب قام أفلاطون منذ القدم بالتضحية بعالم البشر، معتبراً إياه عالم «الظلمة، والعبث، والخداع»، منصرفاً للتأمل في عالم المثل الذي كان بالنسبة له عالم الصفاء والثبات، استمر هذا الطلاق بين الفلسفة «وهي، مع الرياضيات، عوالم العقل بامتياز» وعالم شؤون البشر فترة طويلة، نظراً لأنها لم تر فيه أي ثابت يمكن أن تتنفس من خلاله، وعندما التفت العقل البشري إلى الطبيعة بعدما لاحظ ثباتها ودوريتها، ولد فوراً علم الفيزياء الحديث، وفي سعي هذا العلم الحثيث لاكتشاف القوانين التي تحكم الطبيعة ارتطم أخيراً بفيزياء الكم التي جعلت هايزنبرغ – أحد أوائل علمائها – يقرر أننا في تعمقنا العقلي في الطبيعة من أجل اكتشاف قوانينها لا نجدنا نرتطم في النهاية إلا بأنفسنا، الأمر الذي يعني إعلاناً لفشل اكتشاف الثوابت في الطبيعة، أو لانعدام وجود هذه الثوابت أصلاً فيها.
فقط في حال اليأس والإحباط السياسي تنشأ محاولة اكتشاف «الثابت»، الذي يتحكم بمتغيرات عالم البشر، إذ فقط عندما سجن ابن خلدون، قرر في مقدمة تاريخه تأمل واستنتاج القوانين التي تحكم مسار الدول، وفقط عندما فشلت الثورة الفرنسية، نشأت في أوروبا فلسفة التاريخ، التي تحاول أن تكتشف القوانين التي تنظم عمل التاريخ، هذه الفلسفة التي لخص هيغل، أحد كبار فلاسفة التاريخ، عمله بقوله: «ليس للتأمل الفلسفي من قصد سوى إزالة ما هو عرضي»، أي – بمعنى آخر – الإبقاء على ما هو ثابت في التاريخ، وانطلاقاً من هذا الافتراض بوجود ثوابت في عوالم البشر نشأت العلوم الإنسانية من اقتصاد وسياسة واجتماع وعلم نفس، واضعة نصب أعينها نموذج علم الفيزياء كمعيار للعلمية، بحيث كلما زاد الاقتراب من دقته وآلياته ومنهجه أصبحت العلمية فائقة.
من هنا يصبح توظيف مصطلح «موجة» لوصف الربيع العربي غير اعتباطي، أو مجرد استعارة بلاغية من عالم البحار والفيضانات، بقدر ما هو استعارة من علم الفيزياء الذي يمكن فيه حساب استطالة الموجة وترددها والتنبؤ بمداها، وأمام هذه الاستعارة تتنوع النظريات السياسية في التعامل معها من أقصى النقيض – كما في حال أتباع نظرية «الدومينو» – الذين يرون فيها موجة عامة شاملة للعالم العربي كافة لتماثل أسبابها في أرجائه كافة، مروراً بالوسطيين الذين يقصرون انتشارها على الأنظمة الجمهورية وحدها، إلى أقصى النقيض الآخر الذي يرفضها انطلاقاً من أن لا وجود لثوابت مشتركة لدول العالم العربي كافة، لكن لكل دولة قوانينها الخاصة، (وأحد أشهر متبني هذه النظرية هو بشار الأسد في مقابلته مع الـ «وول ستريت جـورنال»، التي بعــــد نشرها بأقل مــــن شهر اشتعلت الثورة في بلاده).
ما يجمع كامل هذا الطيف من النظريات هو أنها تتعاطى مع «الربيع العربي» بمنطق العلوم الطبيعية، أي باعتباره موجة تتحكم بها مجموعة معطيات يمكن قياسها وحسابها والتأثير عليها والتحكم فيها، وفي غمرة هذه الرؤية الميكانيكية لعالم البشر يتم تهميش وإزالة ما يبدو لمن هو مغرم بإبداع النظريات: «عبثي» وشذوذات وغير ثابت، والذي يصادف هنا بأن يكون المبنع الذي ظهرت منه كل هذه الأحداث إلى الوجود، أي قدرة الإنسان على الفعل والتحرر من الأشياء والبدء بشيء جديد عبر إزالة شيء قديم، وهذه القدرة البشرية على الفعل متنوعة بتنوع الأفراد وما يصدر عنها من أفعال قد تكون دوماً بشكل مختلف عما كانته، وبالتالي تصبح محاولة تفسيرها محاولة عابثة تماماً، لأن هذه الأفعال لم تخرج إلى الوجود بحكم ضرورة تاريخية ما، بل هي إحدى نتائج حرية الإنسان.
ما يدفع الإنسان على أن يبدأ شيئاً جديداً هو أنه بعد أن ينفصل عن واقعه الحالي متخيلاً عالماً جديداً يجد أن هذا العالم بسهولة يعده بما لا يعده به واقعه الحالي فيهب إلى البدء بتأسيسه… وكل ما قام به «الربيع العربي» هو أنه أعاد تذكير العرب بهذه القدرة البشرية على الفعل والبدء بشيء جديد.