السنة الهجرية ليست مفيدة، فهي غير مرتبطة بالفصول. ولهذا لا يستفاد منها في الزراعة، ولا في الصيد، ولا في السياحة… ولا لأي عمل يرتبط بالفصول. فهي سنة دينية، لا نلتفت إليها إلا لتحديد المواسم الدينية من صوم وحج وما إلى ذلك. لكن، وعلى الرغم من كل هذا، إلا أنه، ومن زاوية اجتماعية، نجد للسنة الهجرية، وبسبب عدم ارتباطها بالفصول تحديدا، تأثير كبير على أنماط سلوكنا. ولا أجد مثالا أوضح من رمضان على هذا، فرمضان يأتي مرة صيفا، ويأتى أخرى شتاء… هل يؤثر هذا علينا؟
رمضان الذي نعيشه هذه الأيام، هو ثاني رمضان صيفي، فمنذ عام 1405هـ وحتى العام 1428هـ كان رمضان شتويا. أي في فترة تمتد لحوالي 23 سنة. أول الفروق بين رمضان الصيفي ورمضان الشتوي، أن الصوم في الأول متعب أكثر، ففيه يجتمع الحر مع زيادة طول النهار، في حين أن الشتاء بارد وقصير النهار. هذا الفارق ينعكس بجلاء على نفسيات الناس وتعاملاتهم البينية، كما أن ما يألفه الناس عادة في الحر سيكون مرتبط برمضان، من مكيفات وملبوسات صيفية وغيرها، في حين أن “الفروة” و”الدفايات” وغيرها من المظاهر الشتوية ستكون لصيقة برمضان الشتوي. أنا من الناس الذين لم يعرفوا رمضان إلا في الشتاء، وأغلب المشاهد التي أعتدت أن أراها في الرمضانات القديمة لست أراها في هذه الرمضانات الصيفية. فقديما، كان من ضمن عادات أطفال الحي أن يبنوا لهم بيتا صغيرا من الخشب بجانب أرض كبيرة يحولونها لملعب كرة أو طائرة، فيجتمعون يوميا في هذه الأرض: يلعبون ويشعلون الحطب لغرض الشوي والتدفئة، فرائحة الحطب مقترنة في مخيلتي، أنا وأبناء جيلي، برمضان.
أن يأتي رمضان في الصيف، هذا يعني أنه سيأتي في العطلة، وهذا سيؤثر كثيرا على السياحة. وأنا أعتقد أن السياحة الداخلية في العقد أو العقدين القادمين ستكون أكبر بكثير من السياحة الخارجية، والسبب هو رمضان الصيفي. وهذا جانب لو استطاعت الهيئة العليا للسياحة استثماره، لأمكنها تحقيق انجازات كبيرة… فالقليل جدا من يفضل أن يصوم خارج أرض الوطن. هذا فيما يتعلق بالسياحة، أما فيما يتعلق بالدراسة… فالطالب في رمضان الشتوي يخضع جزئيا لسلطة المدرسة، والتي كانت على أيامنا وحدة إنتاج صحوية، فكان مألوفا لدينا التذكير بغزوة بدر والتحذير من الاحتفال بالـ”قرقيعان”. اليوم، لن يخضع الطلاب لسلطة غير سلطة الإعلام والفضائيات، وربما سترث الأندية الصيفية سلطة المدارس لمنع الأطفال من الاحتفال بـ”قرقيعان”.
ولا أبالغ إن قلت أننا نستطيع أن نتحدث عن أجيال رمضانية صيفية وأجيال رمضانية شتوية. فعلى سبيل المثال حوالي 8 ملايين من السعوديين، تتراوح أعمارهم بين التاسعة والثمان وعشرين، عاشوا إما غالبية طفولتهم أو طفولتهم ومراهقتهم معا في رمضان الشتوي، وهؤلاء يمثلون نصف عدد السعوديين تقريبا حسب تعداد 2004.
يمتد التأثير أيضا إلى التجارة والزراعة والصيد. فالتمر، أول ما يتذوقه الصائمون في رمضان، سيأتي متأخرا عن رمضان في السنين القادمة. وعندما كان رمضان شتويا، كانت مواسم التسوق والسياحة ثلاثة: الصيف، ورمضان وعيد الفطر، وعيد الأضحى. الآن بعد أن أصبح رمضان صيفيا، سيتقلص عدد المواسم، وسيقتصر التجار على تسعيرتين اثنتين. أما الصيد، فطيور القميري والكرك والدخل والصفار والخواضير والسمان، هذه كلها تبدأ هجرتها عادة من منتصف أغسطس إلى بداية سبتمبر، وقد تشهد الموائد الرمضانية في السنين القادمة تكاثر هذه الطيور إما فطورا أو سحورا.
يبقى أن هذا الكلام هو مجموعة رصد وتأملات وتوقعات، والأكيد هو أن لكل واحد منا ذكرياته الخاصة ورمضانه الصيفي أو الشتوي الخاص به. ولعل هذا التنويع في الفصول، هو ما يميز السنة الهجرية. فهي وإن كانت غير مفيدة، إلا أنها لا تجعل حياتنا رتيبة تلك الرتابة المملة، بل تجعلها ديناميّة متغيرة باستمرار…