نظرا لانعدام معيار واضح نستطيع من خلاله تتبع مسارات الفكر السعودي، فالاكتفاء بالمؤشرات المتنوعة التي تظهر على وسائط هذه الثقافة من كتب ومقالات صحفية ومنتديات ومدونات وغيرها، يكاد يكون السبيل الوحيد لمراقبة نموها. ومن خلال هذه المؤشرات، أستطيع أن أقول أننا نعيش في مرحلة احتضار “نقد التراث الاسلامي”. فهذه الموجة التي تشكلت في التسعينات من مجموعة من المثقفين لا يجمعهم شيء سوى اتفاقهم على نقد الصورة النمطية التي تتبناها السلفية للتراث. هذه الموجة التي وصلت لمرحلة نضجها مطلع الألفية الثانية، وخاضت مع السلفية العديد من المعارك، فسموا بالعصرانيين وتسموا بالتنويريين، تمر هذه الايام بمرحلة انحسار.
كان “نقد التراث الاسلامي”، بالنسبة إليهم هو الإجابة التي يتقدمون بها لحلّ الإشكالية الرئيسية التي تواجه المثقف العربي: لماذا نحن متخلفون؟ وكيف نتمكن من تحقيق النهضة؟ تنوعت أجوبة هذه الإشكالية، ويكاد يكون تاريخ الفكر العربي هو سلسلة من الأجوبة الفاشلة على هذا السؤال. وفي السعودية، وضدا على الإجابة السلفية التي ترجع سبب التخلف إلى البعد عن العقيدة وبالتالي فالحل هو بالعودة إليها من جديد، ضدا على هذه الاجابة كان التنويريون يجيبون كالتالي: الحل يبدأ من نقد التراث، من إعادة تأويله، فسبب التخلف الرئيسي هو مجموع تصوراتنا عنه.
وفي هذا السبيل يقدم التنويريون العديد من الحجج لتأكيد أهمية “نقد التراث”، وينجحون في إظهار ما تخفيه الأيديولوجية السلفية من تناقضات. وينجحون كذلك في توليد تصورات متماسكة مخالفة للسائد، ويجلبون للنور ما قد تم تهميشه تماما. وعلى الرغم من هذه النجاحات، إلا أنهم لم يستطيعوا أبدا أن يخرجوا من فشلهم الرئيسي. فالتنويري الذي تسلح بالمناهج التأويلية الحديثة، واستطاع أن يولد مجموعة من الرؤى “الحديثة” للتراث، هذا التويري لم يستطع أبدا، عبر نقد التراث، أن يطرح حلولا تنتشلنا من هذا التخلف الذي يحيط بنا، أن يبدع برامجا تضعنا على الخط الصحيح نحو النهضة.
ويعود السبب في هذا إلى خلط أساسي انطلق منه التنويريون: فعلى الرغم من أهمية نقد التراث، وعلى الرغم من كونه مجالا خصبا للإبداع وتوليد رؤى حديثة، إلا أن “نقد التراث” لا علاقة له أبدا بالتحديث والنهضة، فهاتان قضيتان منفصلتان، وسبب فشل “التنوير” الأساسي، هو هذا الربط الغير المبرر بينهما.
هذا الفشل يطل على التنويريين برأسه من خلال الهوّة السحيقة التي تفصل بينهم وبين المجتمع الذي يريدون له النهضة. فهذا المجتمع المشغول حتى أذنيه بـ “شاعر المليون” والذي تتابعت عليه الصدمات الاقتصادية من انهيار سوق الأسهم إلى غلاء الأسعار، هذا المجتمع لم يأبه يوما بتحليلات التنويري للتراث ونقده وتمحيصه. بل حتى في القضايا الاجتماعية، التي يعتبر معظمها امتدادا لجزء من التراث، الجزء الذي يشدد التنويري على أنه يجب استبداله أو إزالته، كعادات الزواج واشتراط النسب وتصاعد “القبلية” والاستبداد الذكوري، لم تفلح تحليلات التنويري لها في حلحلتها أو حتى التأثير عليها. يتصور التنويري أنه بمجرد كشفه عن الجذور التي تعود إليها بعض الظواهر الاجتماعية، وعن المصالح التي عنها انبثقت، وعن السلطات التي وجهت انبثاقها، أنه بمجرد أن يكشف عن هذا كله، فإن هذه الظاهرة ستتلاشى من الوجود تلقائيا. وهذا تصور فاسد ينطلق من هذه المقولة: أنه لكي نحل مشكلة علينا أن نتعرف عليها، في حين أن “التعرف على المشاكل” المرحلة الأولى للحل.. لا كل الحل!
وعلاوة على هذه الهوة التي تفصل بين المجتمع وهذه النخبة المثقفة، فإنها –أي هذه النخبة- تزيد في ابتعادها عن مجتمعها عبر انئسارها في إشكاليات فلسفية وتراثية لا نتيجة عملية لها. ورغم أن التساؤل والفضول المعرفي فضيلة من وجهة نظري، وأنه نوع من أنواع الكمال الروحي، لكن الانشغال به عن التصدي للمشاكل المتراكمة التي يعاني منها المجتمع، هو نوع من أنواع الانسحاب… إن لم يكن هروبا! وقد قال عمانوئيل كانت يوما “إذا تركنا قيادنا لكل فضول عابر، وأرخينا العنان لرغبتنا في الدرس حتى لا تقف دون حدود قدرتنا، فذاك دليل على نهم في العقل لا يتنافى مع البحث العلمي. ولكنها الحكمة هي التي تتميز بالقدرة على أن تختار، من بين ما يعرض لنا من مشكلات، المشكلة التي يهم الانسانية حلها”.
والمشكلة الرئيسية التي يهمنا حلها هي مشكلة “تحقيق النهضة”، والبحث عن هذا الحل في التراث قد يعيننا على تفهم أحد جوانب المشكلة، لكنه أبدا لا يسعفنا في توليد الحل وإبداعه. بل إن الاقتصار عليه قد يصيبنا بالشلل، وهو الشلل عينه الذي نرى التنويريين يعانون منه عندما يحاولون طرح حلول للمشاكل الاجتماعية، فإذا بهم يكتفون باستيراد الحلول الليبرالية التقليدية، دون أدنى تفكير في مدى ملائمتها!