تحكي الأسطورة أن فلاحا فرنسيا يدعى نيكولاس شوفين استحثته وطنيته للتطوع في جيش نابليون بونابرت من أجل الدفاع عن بلاده، وبعد إصابته في المعركة، تم منحه راتبا تقاعديا لم يكن كافيا لتغطية حاجاته. ورغم ذلك، وبعد الإطاحة بنابليون، استمر شوفين بولائه وتعصبه الأعمى للشخص الذي لم يعتن به حق العناية. ومن اسمه، تطوّر مصطلح الشوفينية، وبات يستخدم في وصف كل توجه عنصري مغالي ازدرائي للآخرين.
في مقالة منشورة في صحيفة الجزيرة السعودية بعنوان (الخليجيون ودول عرب الشمال والخطأ الإيراني)، يطرح كاتب شعبوي اسمه محمد آل الشيخ تقسيما جغرافيا للعرب: قسم اسمه (الخليجيون)، وقسم اسمه (عرب الشمال). هذا التقسيم ليس جغرافيا بحتا، بل يحمل في طيّاته، موقفا قيميّا، إذ، بالنسبة إليه، هناك ”تباين واضح بين أولئك وأولئك في كل مقومات البنية الثقافية والاجتماعية وكذلك الإقتصادية والسياسية“. بعد ذلك، يستخدم آل الشيخ هذا التقسيم، في هذه المقالة وفي تغريداته على تويتر، لتقديم العديد من الرؤى الشوفينية: فعرب الشمال فاشلون تنمويا، لم يستطيعوا بناء دولهم، لا يجيدون سوى الثرثرة، ويتصفون باللؤم والحقد اتجاه الخليجيين، وهم أكثر قابلية للإختراق الإيراني، وبالمقابل عرب الخليج نجحوا في بناء دولهم، وفي تنميتها، وهم أكثر تماسكا واستعصاء على الاختراق الإيراني. تصل هذه الثنائية عند هذا الكاتب إلى اعتبار الكيان الصهيوني عدوا لعرب الشمال، في حين أن إيران هي عدو الخليجيين.
هذا الخطاب عنصري. لماذا؟ حتى نستطيع الإجابة على هذا السؤال، لابد من أن نتحدث قليلا عن شيء يسمى بـ”الجوهرانية“. تخيّل أن هناك حيّا فقيرا، وأغلب سكانه من البادية، وهذا الحيّ مهمل من البلدية، حيث لا توجد فيه خدمات ولا أمن، ومدارسه قديمة، والجريمة (من سرقة، وقتل، وتجارة مخدرات) منتشرة. الآن نريد أن نفهم لماذا الجريمة منتشرة في هذا الحيّ؟ جاء شخص واقترح التفسير التالي: (البادية لم يعتادوا العيش إلا في الصحراء، حيث لا نظام ولا قوانين، ولهذا السبب تكثر الجريمة في الأحياء التي يسكنون فيها، لأن ثقافتهم تجعلهم كائنات غير متقيدة بالقانون). إن ما يقوله هذا التفسير هو أن المشكلة ثقافية، أن ثقافة هؤلاء البادية هي السبب. وهذه الثقافة يتم التعامل معها على أنها ثابتة، غير متغيرة، تمثّل جوهرا رئيسيا من تكوين البدوي. إذا سرق البدوي، فليس ذلك لأنه فقير، أو لأنه يعيش في مكان مهمش ومهمل، أو لأنه لم يتلق تعليما مساويا لغيره، بل فقط لأن ثقافته تحثه على ذلك.
هذا التعاطي جوهراني، لأنه يتخيّل وجود (جوهر) ثابت غير متغير للثقافات، وأن هذا الجوهر له قدرة كبيرة على السيطرة على سلوك الفرد، بحيث تصبح العوامل الاقتصادية والتاريخية والتعليمية والسياسية والاجتماعية ثانوية أو غير مهمة لتفسير سلوكه، بل يكتفى فقط بهذا الجوهر الثقافي الذي يرثه الشخص من أهله كما يرث الجينات. وافتراض وجود مثل هذه الجواهر ثقافية الثابتة هو محض خيال لا وجود له. فالعوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها تلعب دورا مهما ورئيسيا في التأثير على سلوك الفرد. ولهذا السبب فإن إلغاؤها، ثم التركيز فقط على العامل الثقافي بشكله الجوهراني، يدل على كسل فكري، يشير إلى أن صاحبه لا يريد أن يكلف نفسه عناء البحث عن الأسباب والظروف التي دفعت بظاهرة ما للوصول إلى ما وصلت إليه. كما أن مثل هذه التفسيرات تقوم في بعض الأحيان بتبرئة المتسبب الرئيسي (خصوصا إذا ما كان هذا المتسبب جهة بشرية) الذي أدى بهذه الحال إلى ما هي عليه. فعلى سبيل المثال، يغفل آل الشيخ، أن بلدان الهلال الخصيب خضعت وتخضع لاحتلالين: الاحتلال الصهيوني، والاحتلال الأمريكي، وأنه من غير الممكن الحديث عن مستوى التنمية هناك دون الإشارة لهذا العامل.
التفسير الجوهراني في حدّ ذاته ليس عنصريّا، إلا أنه يصبح عنصريّا، عندما يتم التعامل مع جوهر ما باعتباره أسمى (أو أحطّ) من جوهر آخر، أي عندما أصدر حكم قيمة على هذا الجوهر. فادعاء وجود جوهر بدوي يقابل جوهر حضري هو أمر غير صحيح، لكنه ليس عنصريا. يصبح عنصريا عندما يقال أن الجوهر البدوى أسمى (أو أحط) من الجوهر الحضري. وخطاب آل الشيخ عنصري ليس فقط لأنه يتكلم عن الخليجيين وعرب الشمال باعتبارهم جواهر بل لأنه يتكلم عنهم بطريقة ازردائية تجعلهم في مرتبة حضارية أدنى من (الخليجيين).
قبل صعود هتلر، كانت العنصرية صريحة وتربط أحكاما قيمية بلون البشرة وأعراق البشر، لكن بعد الجرائم التي قامت بها النازية، توارت العنصرية الصريحة، وحلت محلها عنصرية خفية، عنصرية تعلّق أحكامها على الثقافة، وتعمل بنفس الطريقة التي تعمل بها العنصرية لكنها أكثر قبولا لأن الثقافة تتغير وإن كان ببطء شديد قد يأخذ مئات السنين.
إن ما يفعله آل الشيخ ومن هم على شاكلته من الشوفينيين السعوديين، ليس إلا عملية (قلب) للخطاب الشوفيني المنتشر في بلدان الشام والعراق ومصر، أي ذلك الخطاب الذي يحقّر من عرب الجزيرة العربية ويقلل من شأنهم بطريقة تعيد إنتاج الخطاب الاستشراقي الغربي لكن عبر حصره في المساحة الجغرافية الخاصة بجزيرة العرب. فكل ما فعله آل الشيخ هو مواجهة عنصرية بعنصرية مثلها، وشوفينية بشوفينية مثلها، أي أنه حتى في عدائه لمن يسميهم (عرب الشمال) يقوم بتقليد العنصريين منهم والتشبه بهم.
إن رفض هذه الخطابات العنصرية (سواء انطلقت من سعوديين أو شوام أو عراقيين، أو حتى من غير عرب أو ضد غير العرب) ينطلق من سببين: الأول أخلاقي، والثاني سياسي. أما السبب الأخلاقي فالعنصرية ظلم. تخيّل أنّك سعودي في أمريكا، تعبت كثيرا من أجل أن تحصّل مقعدا دراسيا ومجتهد ومسالم ولم ترتكب جريمة أو خطأ. وفي هذه الاثناء قام سعودي آخر باغتصاب طفل في ولاية تبعد عنك مئات الأميال، فبدأ الكتاب العنصريين في أمريكا بمهاجمة كل ما هو سعودي، والمطالبة بترحيلهم. أفلا يعتبر ظلما أن تتم محاكمتك على عمل لا علاقة لك به، وفقط لأنك تتشارك مع الجاني جنسية أو ثقافة أو دين أو مذهب أو لون؟
هذا بالنسبة لكونه ظلما، أما بالنسبة لسبب رفض العنصرية السياسي، فلأنها تقويّ موقف الخصوم. تخيّل أنك تعادي نظام الأسد. لماذا تعاديه؟ لأنه متحالف مع إيران ولأنه مجرم قتل شعبه…إلخ الأسباب. هناك الكثير من السوريين من هو مستعد للتحالف معك ضد نظام الأسد إذا كنت تحصر عداءك به كنظام. لكن عندما تبدأ بصياغة عداوتك لنظام الاسد باعتبارها عداوة ضد كل السوريين وضد كل أهل الشوام، فأنت هنا عوّمت المشكلة، وحوّلت العداء من كونه موجه ضد نظام بعينه إلى عنصرية ثقافية ضد شعوب بأكملها، بهذه الطريقة ساويت بين الجلاد والضحية، وخدمت من تعاديه عبر الظهور بشكل عنصري، وفوّت على نفسك محاصرة خصومك عبر تحديدهم باسمائهم وأشكالهم السياسية. لهذا السبب يكون الخطاب العنصري ليس فقط ظالم من الناحية الأخلاقية، بل فاشل وسخيف من الناحية السياسية.
إن الشوفينية لا تقوم فقط على ازدراء الاخرين ولومهم جماعيا، بل هي أيضا تقوم على تطهير الذات وتنقيتها، فمثلما يتم النظر للآخرين على أنهم كلهم أشرار، يتم النظر للسعوديين كلهم على أنهم أخيار وأطهار. وهذه الرؤية تصبح عمياء أمام أي مظالم أو مشاكل داخلية، أي أن محمد ال الشيخ بخطابه هذا يجعل من نفسه مساويا للسعودي الإسلامي، والفاسد، وتاجر المخدرات، والداعشي، لأنه كعنصري لا يحكم على البشر انطلاقا من أعمالهم ومواقفهم كأفراد، بل يكتفي بمعرفة انتماءاتهم، للحكم عليهم.