كنت أفتش أوراقي ليلة أمس، فوقعت في يدي قصاصة قديمة، مكتوب عليها بخط فرنسي قديم ما معناه:
(إنني مقدم على مشروع لم يسبقه مثيل، ولن يكون له نظير؛ إذ إنني أبغي أن أعرض على أقراني إنسانا في أصدق صور طبيعته.. وهذا الإنسان هو: أنا!.. أنا وحدي..!…
فإذا ما انطلقت آخر صيحات بوق البعث، عندما يقدر له أن يدوي، فلسوف أمثل أمام الحاكم العادل وهذا الكتاب بين يدي، ولسوف أقول في رباطة جأش: “هذا ما فعلت، وما فكرت، وما كنت.. لقد رويت في كتابي الطيب والخبيث على السواء، بصراحة، فلم أمح أي رديء، ولا أنتحلت زورا أي طيب، وإذا كنت قد استخدمت بعض التزويق الفارغ -بين وقت وآخر- فما ذلك إلا لأملأ فراغا نشأ عن نقص في الذاكرة. ولربما قطعت بصدق أمرا أعرف أنه “قد” يكون صحيحا ولكنني قط لم أزعم صدق ما عرفته زيفا.. لقد صورت نفسي على حقيقتها: ي ضعتها وزرايتها…وفي صلاحها، وحصافة عقلها، وسموها… تبعا للحال التي كنت فيها!.. لقد كشفت عن أعمق أغوار نفسي، كما كنت أنت تراها، أيها الخالد السرمدي… فاجمع حولي الحشد الذي لا حصر له من أبناء جنسي، ودعهم يصغون إلى اعترافاتي، فيرثون لخستي، ويخجلون لمثالبي. ثم ادع كلا منهم إلى أن يكشف بدوره -وبعين الصراحة- أسرار فؤاده، عند قوائم عرشك، وليقل إن جرؤ: “لقد كنت خيرا من ذلك الرجل”!)
لهذه القصاصة قصة غريبة لرجل من أنبل الرجال الذين عرفتهم في حياتي. إذ تبتدئ الحكاية عندما كنت مارا بباريس في أواخر القرن الثامن عشر من أجل تلك الملحمة العظمى التي صنعت خلالها ما سيسمى بعدي “عصر الأنوار”. كان الوقت آخر النهار عندما دخلتها، وأن تكون وسيما، ذكيا، نابها فطنا موهوبا طلق اللسان، أن تكون كل هذا في باريس، فهذا يعني أن تتجمع حولك النسوة. وهذا الذي كان، وبينما كنت أقبّل إحداهن إذ بهمس خفيف أسمعه ورائي، فلما التفت ورائي وإذا برجل في السبعين من عمره يطلب مني أن أقترب منه. تحررت من إحدى الفرنسيات المتعلقات في رقبتي ومضيت إليه. أخذني من يدي وابتعد قليلا، ثم قال لي:
– من أين لك هذه الجرأة مع النساء؟ هل تستطيع تعليمي؟
هنا لم أستطع كتمان ضحكتي، فقهقهت عاليا ثم قلت له:
– تبي تقولي الحين إنك أنت يالفرنسي تبي تعلم منّ أنا البريداوي؟
– لا أعلم ما تقصد بالبريداوي، لكن بالطبع أريد أن أتعلم منك.
– طيب، على هالخشم، بس من معي ؟
مد يده مصافحا، وقال:
– معك جان جاك روسو..
– روسو روسو ما غيره؟
– هل تعرفني؟
– ما عليك… تعال خنروح مقهى وتقولي وش مشكلك مع الحريم.
مضينا جميعا لحانة قريبة من نهر السين، دخلنا وما إن جلسنا حتى بدأ روسو بالحديث:
– لا أعلم من أين أبدأ، ولكن فعلا أواجه مشكلة… قابلت في حياتي نساء كثيرات، أتودد إليهن، أحظى بكل المكانة التي أطمع إليها في قلوبهن، ولكن بمجرد أن نختلي، مجرد أن نفعل ذلك… حتى يشل لساني ولا أقوى على التعبير!
– مسيكين، طيب شف… وش رايك تقولي عن علاقك مع أمك يمكن عندك عقدة ولا شي وانت صغيّر!
– لم أرى أمي. ماتت بعد ولادتي بعشرة أيام، ولهذا السبب نقم أبي علي كثيرا فقد كان يحبها جدا، وواجه صعوبات كي يتزوج منها.
– حتى أنتم عندكم صعوبات بالزواج…
– لا لا، لم يكن والدي فقيرا، لكنه لم يكن حسيبا.
– إيه هذا اللي أقصده، يعني ابوك خضيري وامك قبيلية، وعيوا عليه يتزوجه؟ متأكد إنك فرنسي؟ هذي القصص تصير عندنا واجد..
– أنا لست فرنسيا، أنا ولدت في جنيف.
– أها، طيب قلي: الحين انت بتوصل هالعمر وانت ما بربست مع مرة؟
– دعني أحكي لك: عندما كنت في العاشرة من عمري، عهد بي خالي إلى رجل كي يعلمني أنا وابن خالي. كانت زوجته جميلة، فاشتعل قلبي حبا لها… ولكني لم أستطع الافصاح، فقد كنت في العاشرة وكانت في الاربعين من عمرها، فرحت أهرب لخيالاتي.. ولكنها ما إن لاحظت سلوكي الغريب ونظراتي حتى قررت إبعادي عنها. ما إن أبعدت عنها، حتى قررت زيارة أبي… وهناك تعرفت على مدموزيل فلسن، فأحببتها… وأحببت معها فتاة أخرى في عمري تدعى “جوتن”.
– وشو ذا؟ كرسي حلاق موب قلب! كل شوي حابن وحده؟
– هذا الذي أقوله لك، “جوتن” هذه كنا نمضي معا وقتا طويلا، ولكن ما إن نخلوا بأنفسنا حتى ينعقد لساني…
– طيب، كمّل من حبيت بعد؟
– كثيرات، أنا ولدت يتيما، وتعهد خالي بتربيتي، وكان يرسلني لأصحاب الصنعات كي أتعلم منهم، ولكني كنت أفشل دوما. فعشت حياتي فقيرا مشردا. في إحدى المرات ضقت ذرعا بمعلمي الذي يعلمني النقش فرحلت وتركت جنيف ورائي. هكذا، دخلت العالم العظيم بكل ثقة آملا أن مواهبي ستحف به وأني سأجد عند كل خطوة أخطوها أعيادا وغنائم وأصدقاء يرجون خدمتي ورفيقات كل غرضهن أن يعجبنني
– ما كنت متوقع بعد أنك ستجد توت مثلا؟
– أعلم ما تقول، فقد عشته تماما، أقصد النقيض من كل هذا. المهم أني في طريقي توقفت عند قسيس كان يحاول هدايتي.
– وشلون يحاول هدايتك؟ منتيب مؤمن أنت؟
-لا، أنا والدي كان بروتستانتي.
– الساعاتي؟
– لماذا تقولها هكذا باستخفاف، لقد كان ماهرا جدا، درجة أن استدعاه خليفة المسلمين في القسطنطينية كي يكون ساعاتيه الخاص…
– طيب، إسلم… لقاك ذا القسيس وبينصحك، وش سويت أنت؟
– في البداية التزمت الصمت، ولم أقل شيئا احتراما لحسن ضيافته لي… ولما أن ذهبت من عنده كتب لي خطابا لامرأة تدعى “دي فرانس”.. كنت يومئذ في منتصف السادسة عشرة من عمري. ومن غير أن أكون شابا جميلا قد كنت منتظم القامة جميل القدم دقيق الساق حي الوجه صغير الفم فاحم لون الشعر صغير العينين داخلهما ولكنهما كانتا شديدتي البصيص تقذفان كل ما في دمي من حرارة.
– شكل اسمك أنت جان جاك روسو العتيبي، وش تحس به وأنت تهايط وتمدح بروحك تسذا؟
– للأسف لم أكن على علم بهذا وما علمته في حياتي إلا بعد أن أصبح علمي به غير مجد نفعا..
بعدها قام ليطلب كأسا آخر، التفت على وقال:
– هل تريد أن آتي لك بعصير الحمضيات؟
– لا لا، الحمضيات موب لنا يبو…
قام وطلب كأسا له، وعاد قائلا:
– ما قصتك مع الحمضيات؟
– هذا يا طويل العمر، عندنا المطاوعة يجمعون البزارين ويكشتون بهم. همن يتنقّون أزين واحد ويروح هو وياه يجيبون العشا. بالطريق يلبق، ويراوده عن نفسه… إذا عيّا البزر قاله: إني أختبرك، وإذا طاع… قالبه وشرا له حمضيات يراضيه به..
– هههههههههههههه، ذكرتني ببيير.
– وش انت يا بيير؟
– كنت أيام تشردي قد قضيت فترة من الزمن في دير كاثوليكي يحول الشبان البروتستانت إلى كاثوليك. وكان من بين الشباب شابا يدعى بيير، كان الوحيد من بينهم الذي يتقرب مني ويستلطفني.. حتى جاءت تلك اللحظة التي أراد أن يلوط بي!
– هههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
– عندها اشتكيت عليه، فعاب علي أحد الشبان ردة فعلي زاعما أن الأمر عادي وأنه لم يشعر بأي ألم عندما استجاب لأحد الذين طلبوا منه مثل الذي يريده مني بيير..
كنت أضحك بشدة حتى كدت أسقط من على الكرسي، وكان روسو يتجرع كأسه متعجبا من ردة فعلي التي يبدو أنها اعتبرها مبالغا فيها… قلت له:
– اسلم كمل لي قصص حبيباتك..
– نعم، أقول لك أني عندما أخذت الخطاب وتوجهت لدي فارنس.. كنت أعتقد أني سأرى عجوزا شمطاء أذاب جمالها كثرة تبتلها لكني رأيت حين التفاتها لي في ممر وراء منزلها إلا وجها خلق من حسن وعيونا جميلة زرقاء تملؤها الرقة والعطف ولونا باهرا وعنقا ساحرا.
– ملعون هالقسيس، وداك لمه عشان تفتنك..
– أصدقك القول يا سلطان، ما إن رأيتها حتى قلت أن دينا يدعو إليه مثل هذه لابد سائق إلى الجنة!
– وحبيته؟
– طبعا، لكني أبعدت عنها. ثم دخلت الدير حتى أتعمد ككاثوليكي، وبعدها عملت عند سيدة متزوجة أحببتها من كل قلبي.
– لحّووول…
– كنت يا سلطان أتلصص عليها من نافذتها، وفي إحدى الليالي اكتشفت تلصصي عليها. كانت مستلقية على سريرها، فأشارت بيدها على فخذيها… لم أستطع أن أستبين تماما هل كانت تدعوني أم أنها حركة عفوية، تقدمت منها بصمت وصرت فوق قدميها، لكن لم يبدر منها شيئا وكأنها لم ترني. لم أستطع فعل شيء يا سلطان، تملكني الخجل تماما.. حتى سمعنا صوتا، فقالت لي انصرف فانصرفت!
– حالتك صعبة، وطيب هالوضع ذا بتل معك… يعني كم عمرك الحين؟ ولا سويت اي شي؟ ما فقدت عذريتك؟
– بلى، لكن كان بمجهود وعطف من دي فارن. فقدت عدت إليها فيما بعد، وكنت أعلم الناس الموسيقى ورأت تهافت النساء علي… فقررت أن تهبني نفسها، فعلمتني أن الحب لا يتوقف عند مجرد القرب والتخيل، بل يمتد إلى المعاشرة..
بعدها بفترة أخذ يراقب صاحب الحانة، ولما أن رآه دخل مطبخه، قال لي:
– قم بنا بسرعة..
فقمت معه وأنا لا أعلم ماذا يريد..
خرج للخارج ومضى مسرعا بعيدا عن الحانة، حينها أوقفته:
– ماذا ألن تحاسب؟
– لا…
– وشو كل ذا بخل؟
– ليس بخلا. دعني أحدثك بقصة: قديما كنت أتعلم النقش عند أحد المعلمين. كان انسانا غليظا قاسيا لا يتعامل إلا بالضرب.. فكنت أضطر للكذب والسرقة. ومن يومها وأنا أسرق…
– جان جاك روسو حرامي ؟
– سرقت أشياء كثيرة، واصبحت هذه العادة ملازمة لي… حتى وان كنت غير محتاج، فأنا أسرق….
بعدها حانت فترة صمت، ثم قطعها بسؤالي:
– هل سبق أن ارتكبت جريمة؟
– امممممممممممممم، زمان كان عندنا عصير اسمه “سن توب” كان يسوي مسابقات انه نجمع صور بدفاتر، كنت ادخل البقالة والصق الصور ببطني واطلع.
– أما أنا فارتكبت جرائم متعددة، إحدى المرات ماتت السيدة التي كنت أعمل عندها. وعند اقتسام الثروة وقع عيني على شريط ذهبي،فسرقته. لم يكن أثمن الموجود، لكنه أعجبني فسرقته. بعد فترة راحوا يفتشون عنه فوجدوه عندي، ولما بدأوا بمسائلتي اتهمت إحدى الخادمات بذلك. لا أعلم لماذا اتهمتها بذلك، كانت أول من حضر في ذهني، وهي حضرت في ذهني لأني كنت قد عزمت اهداءها إياه. لما أتوا بها، تبجحت باتهامها علنا بأنها هي من أعطتني إياه، رجتني أن أبرئها من هذه التهمة، كنت كلما أشعر بوضاعة هذا الذي أفعله، كلما ازداد اصرارا وتبجحا بتأكيد أنها هي من اعطتني اياه… حتى طردنا أنا وهي، ولم يقبلها أحد للعمل لديه فيما بعد!
– الحين أبسألك: أنت رخمة مع الحريم، يتيم، فقير، مشرد، يلاحقونك العرابجة بالأديرة، حرامي، تسذوب…. شلون صرت اللي صرته ؟
أكمل لاحقا “اعترفات” جان جاك روسو…
من اروع ما قرأت جميل ابداعك سلطان وبالاخص السن توب هذي من وجبته … طرحك للمشاكل الاجتماعية بهذه الطريقة الساخرة المبتكرة اذهلني كثيرا بالتوفيق
خيالك خصب … متابع حتى تضع الحلقة الثانية
موجودة الحلقة الثانية هنا:
http://www.sultan-alamer.com/stories/philosophy/
حبذا لو تكتب سيرتك الذاتية بشكل أكثر تفصيلاً أخي سلطان أريد أن اعرف المزيد عنك
هذه لا تكفيني: http://www.sultan-alamer.com/about/
بارك الله فيك
انت صعلوك زمانك…:) ممتع