كنت أقرأ قبل أيام كتابا عن تاريخ الفلسفة، واستوقفتني عبارة تحدث فيها المؤرخ عن “جني سقراط”… هنا وعند هذه اللحظة أخذتني الذكريات بعيدا جدا، لتلك الأيام القديمة، أيام آثينا المجيدة. ومنذ ذلك اليوم وأنا قد قررت أن أعترف لكم بكل شيء، حسنا- وبلا أي تعقيد: أنا هو، أنا ذلك الجني!
تبدأ القصة منذ زمن طويل، منذ أكثر من 2500 عام، تماما في ذلك الوقت الذي كانت الحرب الفارسية اليونانية تحرق الأخضر واليابس… يومها قررت ذلك القرار الذي أذاقني الويلات ثم الويلات طيلة حياتي كلها التي لا أعلم متى تنتهي، فأنا – لسوء حظي- قد قررت أن أصلح البشر!
كانت الحرب قد انتهت بانتصار اليونان، وكنت أسمع القصص الكثيرة عن آثينا، وجمالها وأهميتها، قلت في نفسي: من هنا تبدأ. كان الطريق من بريدة إلى آثينا مرهقا جدا، وكان العطش قد يبّس شفتاي، وحلقي من شدة جفافه احسه قد التصق… فلم أكد أصل إلى هناك، حتى ذهبت إلى السوق لأروي ظمأي، ومن هذه الحادثة تعرفت على سقراط…
عندما وصلت السوق، بحثت عن أقرب حانة، وطلبت كوبا من الماء. ما إن وصلني الماء حتى سمعت رجلا يتحدث بصوت مرتفع قائلا:
– إذا سألتني عن الشراب، قلت لك أن الخمر ترطب النفس، وتسكن الأحزان. لكني أظن أن أجسام الناس كأجسام النبات، وأن الله إذا غمر النبات بالماء ليرتوي لم يقو على الوقوف معتدلا، ولم يتمكن النسيم من أن يسري في خلاله، ولكنه إذا لم يشرب إلا بالقدر الذي يكفيه لأن يستمتع به نما واستوى على سوقه وأثمر أكمل الثمار وأوفرها…
هنا التفت لهذا الرجل، لأجد رجلا يرتدي ثوبا باليا، حافيا، أفطس الأنف، غليظ الشفتين… قلت في نفسي: هذا الرجل سيوفر لي نصف المجهود الذي كنت سأبذله. قمت من مكاني وتوجهت له، قلت:
– هرجك زين يالاخو. بس فاتك شي…
التفت إلى وقد استحال وجهه لعلامة استفهام… تابعت:
– النبات بكل الحالتين ما يختار كم كاس ماء يشرب، لكن ابن آدم ملعون.. هو اللي يغمر نفسه بنفسه، وهذي هي كل المشكلة: إن ربعنا ما يمسكون أنفسهم!
لم أتوقع ردة فعله، فما إن انتهيت من حديثي حتى قام من مكانه وأقبل علي وعانقني وقبلني من شفتاي… ابتعدت عنه قليلا وأنا أمسح فمي قائلا:
– مبسبس أنت؟
– احم احم.. لا أنا سقراط النحات.
هنا لم أتمالك نفسي، فضحكت وأنا أقول له:
– نحات؟ يعني ابوك نحات؟
– إيه…
هنا انفجرت ضاحكا، سألته:
– يعني أنت خضيري؟
– ماذا تقصد؟
– ههههههههههههههههههه، ياحليلكم ما عندكم هالأمور…
خرجنا من الحانة، وتجولنا في السوق… تأمل سقراط هذا الكم الكثير المعروض من البضائع، تمتم بصوت غير مسموع، اقتربت منه وقلت:
– وش تقول؟
– إيييه يا سلطان، ما أكثر الأشياء التي لا أحتاجها!
– بلا والله موب منك، من الطفارة…
توقف فجأة، وأقبل على رجل واستأذنه بأن يجلس إلى جانبه، قال له بعد أن أخذ الإذن:
– سمعتك قبل قليل تنهر ابنتك من أن تخرج مع صديقها، قائلا لها بأن ذلك أمر غير لائق…
– نعم… نعم.. هذا الجيل الجديد، جيل منحط، إن كان يحب ابنتي لماذا لا يتزوجها؟
– هل تسمح لي بأن أسألك سؤالا؟
– تفضل..
– ماذا تقصد عندما تقول “غير لائق”
– هه! أقصد أنه أمر غير مقبول.. مرفوض.
– من الذي رفضه؟
– ويحك! الجميع!
– أنا واحد من هولاء الجميع ولا ارفضه، ابنتك واحدة من هذا الجميع ولا ترفضه، حبيبها واحد من هذا الجميع ولا يرفضه.. فعن أي جميع تتحدث؟
– الآلهة… كل الآلهة ترفض ذلك!
– آلهة؟ هل سبق أن رأيتهم؟
– أعوذ بهم… ماذا تقول أنت؟ ترانا بشهر فضيل! طبعا لم أرهم!
– إذن كيف عرفت بوجودهم؟ وأنهم يرفضون أن تلتقي ابنتك بمن تحب؟
قبل أن يجيب الرجل، جاء صوت من بعيد.. يقول:
– يا شايب، يا عايب، يا حظي الخايب…. سقيريط!
هنا هبّ سقراط واقفا، وجرى ليحتمي خلفي وهو يرتجف… قلت له:
– وراك توحشت؟
– هذي مرتي… بتفشلن الحين قدام العالم…
وصلت تلك المرأة ذات الشعر المنكوش، وهي تتلفت وبيدها خيزرانة:
– وينه، وينه هالسرسري…
تقدمت إليها، وقلت لها:
– يالاخت!
– تبن! وش تبي ؟
– هدي هدي شوي، تدورين سقراط؟
– أجل من أدور؟ أنت؟ أنت ووجهك يالبربري*؟
– توي شايفه بالحانة، يقول: إن الخمر تخلي الواحد يشوف الاشياء على حقيقته، وان النبات أزين من الانسان لأنها تعيش وتتكاثر بدون حريم!
– احلف؟!
– قسم بالله…
– أوريك به هالقزم!
بعد أن ذهبت، خرج سقراط من تحت أحد الصناديق، وأقبل علي زاما شفتيه يريد تقبيلي، هنا أوقفته:
– قلت وش سالفك انت مع هالتمطيخ؟
– لا أعرف… بس ابعبر لك عن امتناني.
ذهبنا وجلسنا في مكان منزوي، قلت له:
– تو سمعتك تهارج الرجال، وجازتلي أسئلك.. بس لاحظت انك بس تسأل، ما تجاوب.
– إيه… بالنسبة لي كل ما أعرفه هو أني لا أعرف. أنا ما املك إلا أسئلة، ولا أملك أي جواب.
– بس تسذا، أنت تصير تهدم ما تبني، وتشكك الناس، بدون ما تمسك ايدينهم للطريث السليم…
– شف سلطان: ما أنا إلا قابلة كأمي، أختلف عنها باستخراج الأفكار من أرحام عقول أصحابها. ليس المهم أن نعرف الجواب الصحيح، بقدر ما يهم أن نتفحص ما نزعمه جوابا صحيحا!
– منتيب سهل! ما قلتلي: من وين لك كل ذي الحكمة؟
– والله شف، بعد ما استولى الفرس على ملطية، نزحوا هنا لآثينا ناس واجد… منهم طالس وغيره، لكن أخطرهم ذولا السرابيت اللي يقالهم “سوفسطائيين”…
– تبي تقولي إنك منتب واحد منهم؟
– أنا أشترك معهم بكوني شكاك، لكن هذولا يهدمون الاخلاق. أنت ما سمعت بروتاغوراس وش يقول؟
يقول: “الانسان مقياس الأشياء طرا. مقياس وجود الموجود منها، ومقياس لاوجود اللاموجود منها”. أما “الآلهة فلا يسعني أن أعلم إن كانت موجودة أو غير موجودة، فعقبات كثيرة تحول بيني وبين هذا العلم، وأخصها غموض الموضوع وقصر الحياة!”.
– يعني انت الحين مؤمن بالآلهة؟
– أنا دايم أقول للي يهتم بموضوع الآلهة: هل عرفتم شئون البشر حق المعرفة حتى تسمحون لأنفسكم بالتدخل في شئون السماء؟
– طيب كذا انت اذا سحبت على الآلهة والاديان، بتخلق بينك وبين الناس حاجز…
– أنا أؤمن بالله!
– طيب: كيف يعبد الإنسان آلهته؟
– حسب قانون بلاده!
– الحين صرت مؤمن بالقانون؟
– أنا ملتزم بالقانون، لكن ما لا يعجبني هو هذه الديمقراطية البغيظة.
– منتب ديمقراطي أنت؟
– كيف الحال سلطان؟… من السخف أن نختار حكامنا بالقرعة، على حين أن أحدا لا يفكر قط أن يختار بالقرعة ربان السفينة أو البناء أو الذين ينفخون على الناي، أو أي صانع على الاطلاق، رغم أن عيوب هؤلاء أقل ضررا من عيوب أولئك الذين يفسدون علينا حكوماتنا!
هنا، لم يكن سقراط مركزا معي، بل كان كله متمركزا في عينيه، وكانت عينيه كلها متمركزة بشاب وسيم يتمشي في الحديقة التي أمامنا..ناديته:
– سقراط.. سقراط..
لم يجب..
– سقراط .. سقراط… جت مرتك!
لم يعرني أي اهتمام، بعدها بفترة قال:
– أعرف جوابا واحدا لسؤال: ما هو الجمال؟… إنه هذا الفتى الذي يتمشى أمامي!
– ههههههههههههههههههههههههههههههههههه، طلعت بزرنجي ؟!
ما كدت أكمل ضحكتي، حتى أحاط بنا عشرون جنديا. أخذوني ورموني بعيدا، وأمسكوا سقراط وأخذوه معهم. هنا، أنا أكتب وعيني تغرقها الدموع… هذا المشهد هو الوحيد الذي لم أستطع نسيانه. تبعتهم، كان الطريق طويلا جدا، وفي داخل مكان يشبه السجن أدخلوه. حاولت بكل الطرق النفاذ إليه، فلم أستطع.
في اليوم التالي، جاؤوا به أمام الناس ليحاكموه. اصطف 501 قاض، جلسوا ووضعوا أمامهم الصندوق الذي توضع فيه الاحكام النهائية. كان المدعين ثلاثة أشخاص، بدأ الأول اتهاماته…اتهمه بتهم كثيرة: أنه يفسد دين الناس، أنه يحرض على الحكومة، أنه يريد قلب آثينا رأسا على عقب… جاء الرجل الثاني، الذي عرفته على الفور، لم يكن سوى ذلك الرجل الذي ناقشه سقراط بالأمس.تحدث: عن الانحلال الاخلاقي الذي يدعو إليه، وعن تشحيعه للزنا والاعتراض على الآلهة! لم أشاهد في حياتي كلها شعبا يتآمر على من يضحي لأجلهم إلا آثينا مع سقراط واليهود مع يسوع!
جاء دور سقراط للدفاع عن نفسه، قال: كل من ناقشته وحاورته كان يدعي العلم، ولم يكونوا إلا جهلة. أنا أعلم الناس. الناس دوما يدعون أنهم يعرفون شيئا، وإذا سائلتهم وناقشتهم تبين لديك أنهم يتوهمون ولا يعلمون. أما أنا فأعلم جيدا أني لا أعلم، ولا أتوهم ذلك. بعدها التفت على المحكمة وقال: ستخسرون كثيرا إن حكمتم علي بالموت، لا تحكموا علي… ودعوني أعود إلى عملي، لنشر الفضيلة بين الناس. قال كلامه بكل حزم، بكل هدوء ثم جلس.
هنا بدأ التصويت الأولي، الذي يحدد ما إذا كان سقراط مذنبا أم لا. وضع كل قاضي تصويته، وجاءت النتيجة أنه مذنب. هنا أمر رئيس القضاة – حسب ما تقضي به التقاليد الاثينية- سقراط بأن يختار عقوبته. قام سقراط وقال: أرى أن تتعهدني البريتانية! هنا ثار الصخب والاستهجان في كل مكان، فسقراط لم يفقد حس الدعابة حتى في لحظاته الاخيرة… فالبريتانية مؤسسة أثينية تتعهد بالحفاظ على عظام الرجال وتأمين حياة كريمة ولائقة بهم.
هنا قرر القضاة أن يختاروا الحكم بأنفسهم. انتهى التصويت: كان الإعدام، بتجرع سم يؤتى به خصيصا لهذه المناسبة.
كان وقع هذا الحكم عليّ شديدا جدا، لم أستطع النوم تلك الليلة. توجهت إلى سجنه، استطعت التسلل. دخلت إليه وكان راقدا بكل هدوء. أيقظته… لم يستطع أن يميزني، وما أن استطاع تمييزي حتى أقبل علي- كعادته- ليقبلني، فأبعدته عني.. وقلت له:
– قم بنا، وجدت طريقا للهروب…
استوى على السرير، ثم قال:
– سلطان، هل تريدني أن أخالف القوانين؟ ما جدوى كل هذا الذي أدافع عنه في حياتي، إن كنت سأتخلى عنه بسبب كوب من السم؟
قضينا تلك الليلة سويا، وما إن جاء الصباح حتى استوى واقفا.. طلب ان يستحم، قال قبل أن يدخل الحمام: لا أريد أن أتعب النساء بتغسيل رجل ميت. بعد أن فرغ من الاستحمام، خرج وأخذ يناقشني عن قضايا متفرقه في الفن والجمال.. جاءه الجلاد وقال له: إن شربت السم، لا تتحرك كثيرا فيذهب مفعوله. هنا صرخ به سقراط: لماذا لم تكثر منه؟ إنها مهمتك!
جاءت الساعة، اقترب الجلاد منه واعطاه السم… قال: بعد أن تشربه ستفقد السيطرة على رجليك وستسقط. لم يكمل عبارته إلا وسقراط يشرب السم دفعة واحدة. بعد قليل فقد سيطرته على نفسه، سقط على الأرض… والجلاد يحدث الناس بأن السم سيشعر صاحبه ببرودة تسري في أجزاء جسمه حتى تصل إلى قلبه فيموت. ما إن استشعر سقراط البرودة تصل إلى بطنه حتى التفت إلى وطلبني، اقتربت منه:
– لبيه؟
– به واحد يقاله لايسكولاب تسلفت منه دجاجة، عطه قروشه بدون مكاسر.
– تامر، تبي شي ثاني…
لم تأتني إجابته، فقد مات… وعلى الرغم من كثرة الفلاسفة الذين عرفت في حياتي، إلا أن أفطس الخشم هذا كان علما مستقلا لوحده….
* بعد الحرب الفارسية اليونانية، نشأت نزعة شوفينية يونانية، يعتبرون كل شخص غير يوناني أنه من البربر. فـ “بربري” هنا لا تعني ذاك الخروف.
القصه لطيفة خفيفه .. يعني عادية .. (اتبع مبكياتك ولا تتبع مفرحاتك :p)
امممممم وراك مالقنته الشهاده والله انك اوب خوي
ههههههههههه… تذكرني بقصصي إللي أألفها لما ابي احفظ شي من كتاب الاحياء ..
لما قريت العنوان تذكرت كتابات بورخيس التخيليه مع اساطير.. نايس ..
وش معنى سرسري ؟
سرسري يعني درجة من درجات السربتة. وهي غالبا تطلق على اللي يتأخر برا البيت وكل يوم بمحل ومن هذا القبيل
فعلا مقال عظيم
وشلون عرف إن إسمك سلطان ..
ممتعة وعشان تكون اروع زود الرمزية حبتين.
وقتها بتكون عصفورية ثانية.
وننتظر الحلقة التالية
ايراهيم
@ihr2
رائع جدا
وان سمحت لي ان اسأل فمن اين استقيت ميول سقراط البزرنجية؟
ابداع, اهم شي انه وصاك ماتكاسر راعي الدجاجة ههههه
جلستك انت وياه وسوالفكم في ليلة الاعدام يبي لها تدوينة خاصة
سلطان هل سقراط فعلا شاذ ؟
أهلين، مافي مصدر واحد موثوق عن حياته، لكن المشهور عنه انه شاذ، والشذوذ باثينا ذاك الوقت كان عادي. مثلا الاسكندر المقدوني كان شاذ.
هههههههههههه قسم بالله ياضحكت يوم قلت له “مبسبس أنت؟”
قصة جميلة بها كثير من الصدق والحقيقة
شكراً سلطان